المواقع الأثرية والتاريخية السعودية المسجلة في اليونسكو
لطالما كانت الجزيرة العربية مهد الحضارات وملتقى للثقافات، ومعبر للقوافل التجارية والحجاج على مدى آلاف السنين. في قلب هذه الجزيرة تقع المملكة العربية السعودية، التي تحتوي على كنوز أثرية وتاريخية تحكي قصة الإنسان في هذا الجزء من العالم منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث.
وفي إطار رؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى تعزيز مكانة المملكة ثقافياً وسياحياً، أولت الحكومة السعودية اهتمام كبير للحفاظ على هذه المواقع، والعمل على تسجيلها في قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو. حتى اليوم، نجحت السعودية في تسجيل ستة مواقع تراثية عالمية في اليونسكو، كل واحد منها يمثل فصل من فصول التاريخ الإنساني. هذه المواقع تقدم إرث حضاري مشترك للبشرية جمعاء.
فيما يلي استعراض لهذه المواقع وأهميتها التاريخية والحضارية.
أولاً: مدائن صالح (الحِجر) – 2008
كانت مدائن صالح أو "الحِجر" أول موقع سعودي يتم تسجيله في قائمة التراث العالمي. تقع في محافظة العُلا شمال غرب المملكة، وهي أحد أهم بقايا حضارة الأنباط الذين عاشوا هناك في القرن الأول قبل الميلاد.
يضم الموقع أكثر من 111 مقبرة صخرية منحوتة في الجبال، بزخارف معمارية دقيقة تثير الإعجاب حتى اليوم. وكانت "الحِجر" محطة مهمة على طريق التجارة القديمة الذي يربط جنوب الجزيرة بالشام ومصر.
تتميز مدائن صالح بأنها تكشف عن تطور تقنيات البناء والنحت، حيث تظهر مهارة النبطيين في تحويل الجبال إلى تحف فنية تعكس ثقافة عظيمة اندثرت لكنها تركت بصمتها في الصخر.
ثانياً: حي الطريف في الدرعية – 2010
حي الطريف هو القلب النابض لتاريخ الدولة السعودية الأولى. يقع في الدرعية قرب العاصمة الرياض، ويعود تأسيسه إلى القرن 15 الميلادي، لكنه أصبح مقر الحكم ومركز الدولة في القرن 18.
الحي مبني على الطراز النجدي التقليدي باستخدام الطين، وهو يضم قصر سلوى الذي كان مقر حكم الأسرة السعودية الأولى، إضافة إلى عدد من المساجد والمباني الحكومية.
تسجيل حي الطريف في اليونسكو لم يكن فقط لحمايته من الاندثار، بل لتوثيق فترة تأسيس السعودية، ولتقديم نموذج فريد للعمارة التقليدية في نجد.
ثالثاً: جدة التاريخية – 2014
كانت جدة التاريخية تعرف قديمًا باسم "جدة البلد"، وهي الجزء القديم من مدينة جدة الحالية. لعبت جدة دور محوري في التاريخ الإسلامي، حيث كانت البوابة الرئيسية للحجاج القادمين بحراً إلى مكة المكرمة.
تتميز جدة التاريخية بمنازلها المبنية من أحجار المرجان والخشب، ذات الشرفات الخشبية التقليدية المعروفة باسم "الرواشين". من أشهر البيوت التاريخية في جدة: بيت نصيف وبيت باعشن.
تسجيل جدة التاريخية يسلط الضوء على الدور التجاري والديني للمدينة، ويبرز تطور نمط الحياة في المدن الساحلية على البحر الأحمر.
رابعاً: الفنون الصخرية في حائل – 2015
في منطقة حائل، وتحديداً في موقعي جبة والشويمس، توجد واحدة من أقدم وأغنى مجموعات الفنون الصخرية في العالم. هذه النقوش تعود لأكثر من 10,000 سنة، وتصور حياة الإنسان القديم في شبه الجزيرة العربية.
تُظهر الرسوم مناظر الصيد، والحيوانات المختلفة، بالإضافة إلى الرموز والكتابات المبكرة. هذه الفنون تمثل سجلًا بصريًا فريدًا لتطور المجتمعات البشرية في المنطقة، وتعكس العلاقة بين الإنسان والبيئة الصحراوية القاسية.
الاهتمام بهذه النقوش يعكس التقدير العالمي لقيمة التراث الإنساني المشترك.
خامساً: واحة الأحساء – 2018
تُعد واحة الأحساء أكبر واحة نخيل في العالم، حيث تحتوي على أكثر من 3 ملايين نخلة. تمتد الواحة في شرق السعودية، وكانت دائمًا مكانًا خصبًا وسط الصحراء القاحلة.
إلى جانب مزارع النخيل، تضم الواحة مواقع أثرية تعود للعصور الحجرية، وقلاع وأسواق تاريخية، وعيون ماء كانت مصدر الحياة لسكان المنطقة لآلاف السنين.
تسجيل الأحساء في اليونسكو يجسد التفاعل الإنساني مع الطبيعة، ويعكس قدرة الإنسان على تحويل البيئة الصحراوية إلى بيئة زراعية منتجة.
سادساً: منطقة حمى الثقافية بنجران – 2021
منطقة حِمى الثقافية تقع في نجران جنوب غرب المملكة، وهي تضم أكثر من 5500 نقش صخري، ورسوم توثق حياة الإنسان في المنطقة منذ أكثر من 7 آلاف سنة.
الميزة الأبرز في حمى هي النقوش الكتابية المبكرة، خاصة تلك المكتوبة بالخطوط العربية الأولى، مما يجعلها مصدرًا مهمًا لدراسة تطور الكتابة العربية.
حمى كانت معبر لطريق القوافل القديم، حيث تمر بها المسارات التجارية التي ربطت جنوب الجزيرة بشمالها.
أهمية تسجيل هذه المواقع
تسجيل هذه المواقع في قائمة التراث العالمي له انعكاسات مهمة:
- حماية المواقع من التدمير أو الإهمال.
- تنشيط السياحة الثقافية والتاريخية، وهو ما يساهم في تنويع الاقتصاد السعودي.
- تعزيز الهوية الوطنية، وربط المجتمع بتاريخهم العريق.
- تقديم السعودية كفاعل رئيسي في حفظ التراث الإنساني.
هذه الخطوات تتناغم مع أهداف رؤية السعودية 2030، التي وضعت الثقافة والتراث في صميم استراتيجيات التنمية.
مواقع سعودية أخرى على القائمة التمهيدية
هناك مواقع سعودية أخرى مرشحة للانضمام إلى قائمة التراث العالمي مستقبلاً، أبرزها:
- درب زبيدة (طريق الحج الكوفي)
- جزر فرسان
- رؤوس الجبال في عسير
- موقع دومة الجندل
- سكة حديد الحجاز
تعمل السعودية على تجهيز ملفات هذه المواقع لتقديمها إلى اليونسكو في السنوات القادمة.
تمثل المواقع الأثرية والتاريخية السعودية المسجلة في قائمة اليونسكو نافذة مهمة لفهم التاريخ الإنساني، وتكشف عن عمق الحضارة في الجزيرة العربية. إنها ليست فقط رموز محلية، بل جزء من التراث العالمي المشترك الذي يخص البشرية جمعاء.
في ظل الجهود المستمرة من الجهات السعودية، يمكن القول إن المملكة تسير بثبات نحو الحفاظ على إرثها التاريخي، ومشاركته مع العالم بطريقة تليق بمكانتها الحضارية والثقافية.