توطين الوظائف في سوق العمل السعودي

 

التوطين، والمعروف أيضاً بعملية إحلال المواطنين المحليين مكان العمالة الوافدة في وظائف القطاع الخاص، يعد من أبرز الأهداف التي تسعى المملكة العربية السعودية لتحقيقها منذ عقود. الهدف الرئيسي هو تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة وتحفيز مشاركة المواطنين في سوق العمل. بدأت الجهود الجادة في هذا الإطار حوالي عام 1975، ومع مرور السنوات، باتت عملية التوطين أكثر تنظيم وتخطيط، إذ تسعى الحكومة السعودية إلى تعزيز التوازن بين المواطنين والوافدين في شتى القطاعات الاقتصادية، وخاصة القطاع الخاص.

 

 

البداية التاريخية للتوطين

على مر العقود، كانت الحكومة السعودية تسعى لإيجاد طرق عملية لإحلال المواطنين السعوديين مكان العمالة الأجنبية في مختلف القطاعات. ومع حلول الثمانينات والتسعينات، بدأت تتبلور استراتيجيات وخطط أكثر وضوحاً لتوطين الوظائف. ومع ذلك، واجهت هذه الخطط تحديات كبيرة، لا سيما في القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على العمالة الوافدة. في عام 2003، تم تحديد هدف بأن تكون نسبة 30% من موظفي الشركات الكبيرة من السعوديين، إلا أن هذا الهدف لم يتحقق بشكل كامل.

على الرغم من الجهود المستمرة لتطبيق التوطين، كان النجاح في تحقيق نسب عالية من التوطين محدود، حيث أن بعض القطاعات مثل البناء والتجزئة ظلت تعتمد بشكل كبير على العمالة الأجنبية. في عام 2006، حدثت مفاوضات بين رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين أدت إلى تعديل الأهداف وتخفيض نسب التوطين المطلوبة في بعض القطاعات، مما يعكس التحديات المستمرة في تحقيق الأهداف المنشودة.

 

التوطين في العقود الأخيرة

بحلول عام 2018، اتخذت الحكومة السعودية خطوات جديدة لتعزيز التوطين في سوق العمل. من بين أبرز القرارات كان قرار مجلس الوزراء الذي قصر توظيف المواطنين في 12 مهنة بالقطاع الخاص. هذه الخطوة كانت تهدف إلى تقليل نسبة البطالة وتعزيز مشاركة السعوديين في سوق العمل، خاصة في القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على العمالة الوافدة.

في إطار خطة التنمية التاسعة (2010-2015)، كان الهدف الرئيسي هو تقليل معدل البطالة إلى 5.5%، وهو ما لم يتحقق بشكل كامل. ومع ذلك، شهدت بعض القطاعات الاقتصادية مثل النقل والاتصالات ارتفاع ملحوظ في نسب التوطين. على سبيل المثال، ارتفعت نسبة السعوديين العاملين في قطاع النقل من 9% إلى 20% بين عامي 2011 و2013. في حين أن قطاعي التجزئة والبناء شهدوا  تحسّن في نسب التوطين، إلا أن الاعتماد على العمالة الوافدة لا يزال قوياً في هذه القطاعات.

 

التحديات والمعوقات التي تواجه التوطين

رغم الجهود المستمرة لتعزيز التوطين، لا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجه هذه العملية في القطاع الخاص. من بين أبرز هذه التحديات:

1. تكلفة العمالة الوطنية مقارنة بالعمالة الوافدة:

 واحدة من أكبر العقبات التي تواجه تطبيق التوطين هي الفرق الكبير في تكلفة العمالة الوطنية مقابل العمالة الأجنبية. كثير من أصحاب الأعمال يفضلون توظيف العمالة الوافدة بسبب انخفاض أجورها مقارنة بالسعوديين. في قطاع البناء، على سبيل المثال، يحصل السعوديون على متوسط رواتب أعلى بكثير من غير السعوديين، مما يجعل توظيفهم خيار أقل جاذبية من الناحية الاقتصادية.

2. استمرار تدفق العمالة الوافدة:

رغم الجهود الرامية لتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية، لا تزال العمالة الوافدة تتدفق إلى سوق العمل السعودي. هذا التدفق المستمر يزيد من المنافسة بين العمالة الوطنية والوافدة، مما يجعل من الصعب على السعوديين الحصول على وظائف جديدة أو استبدال العمالة الوافدة.

3. ضعف استجابة القطاع الخاص:

على الرغم من الضغوط الحكومية لزيادة نسب التوطين، فإن استجابة القطاع الخاص تظل ضعيفة نسبياً. بعض أصحاب الأعمال لا يرون فائدة كبيرة من توظيف العمالة الوطنية، وذلك لأسباب تتعلق بالتكاليف واحتياجات العمل.

 

التوطين الموازي

للتغلب على بعض التحديات المتعلقة بالتوطين، أدخلت الحكومة السعودية مفهوم "التوطين الموازي". وفقاً لهذا النظام، يُسمح للشركات التي لا تستطيع تحقيق نسب التوطين المطلوبة بدفع رسوم مالية تتراوح بين 3600 و6000 ريال سعودي عن كل موظف سعودي ناقص. تُستخدم هذه الأموال في دعم برامج التدريب والتوظيف للسعوديين. يُعتبر هذا النظام محاولة لتحقيق التوازن بين متطلبات التوطين واحتياجات السوق، حيث يتيح للشركات الحرية في اختيار الطريقة الأنسب لتلبية احتياجاتها.

 

آفاق التوطين في المستقبل

مع استمرار الحكومة السعودية في تنفيذ رؤية 2030، من المتوقع أن تزداد الجهود لتحقيق نسب أعلى من التوطين في مختلف القطاعات الاقتصادية. التركيز على تطوير المهارات والكفاءات الوطنية سيكون أحد المفاتيح الرئيسية لتحقيق النجاح في هذا المجال. من خلال تحسين مستوى التعليم والتدريب، يمكن للسعوديين أن يصبحوا أكثر تنافسية في سوق العمل، مما يسهم في تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة.

علاوة على ذلك، من المتوقع أن تلعب التكنولوجيا دور كبير في تسهيل عملية التوطين. مع التحول الرقمي الذي تشهده المملكة، يمكن أن تساعد التقنيات الحديثة في تحسين كفاءة العمل وتقليل الحاجة إلى العمالة الأجنبية في بعض القطاعات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تسهم برامج التدريب الرقمي في تجهيز السعوديين للوظائف المستقبلية التي تتطلب مهارات تقنية عالية.

 

التوطين في السعودية يمثل تحدي كبير، ولكنه أيضاً فرصة لتعزيز الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستدامة في سوق العمل. رغم العقبات التي تواجه هذه العملية، فإن الحكومة السعودية ملتزمة بتحقيق الأهداف المنشودة من خلال استراتيجيات متطورة وبرامج تدريبية متعددة. ومع استمرار الجهود الرامية لتطوير الكفاءات الوطنية وتقليل الاعتماد على العمالة الوافدة، فإن مستقبل التوطين في السعودية يبدو واعداً، خاصة في ظل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية التي تشهدها المملكة.

التحدي الرئيسي يكمن في تحقيق التوازن بين احتياجات السوق وقدرات الكوادر الوطنية، وضمان توفير بيئة عمل مناسبة تشجع على جذب المزيد من السعوديين إلى سوق العمل، ليس فقط من خلال التشريعات والقوانين، بل من خلال تحسين ظروف العمل وتوفير التدريب اللازم لتأهيلهم للوظائف المطلوبة.