مهرجان الدوخلة الوطني
في محافظة القطيف ضمن جزيرة تاروت على شواطئ الخليج العربي، يقام مهرجان الدوخلة الذي ينبض فيه التراث في أحد أجمل وأعرق المهرجانات الثقافية والشعبية في السعودية، حيث يمثل المهرجان تجربة مجتمعية وثقافية وترفيهية في نفس الوقت.
في هذا المقال سنحدثكم عن طقوس هذه الفعالية وقيمتها التراثية وأيضاً سنتحدث عن أهم الفعاليات التي تُقام في المهرجان.
من طقوس القرية إلى فعالية وطنية
بدأت قصة المهرجان من طقس شعبي صغير عاشته أمهات وأطفال القطيف منذ أجيال، حيث كانت الأمهات يودعن أزواجهن أو أقاربهن الحجاج إلى مكة المكرمة، ويتركن الأطفال في رعاية الأهل. في هذه الأثناء، كانت الأمهات يجهزن لأطفالهن الدوخلة، وهي عبارة عن إناء من سعف النخيل يُملأ بالتراب، ويُزرع فيه القمح أو الشعير. وكان الأطفال يسقونها يومياً حتى عودة الحجاج، فيتعلمون بذلك الصبر والانتظار والمسؤولية. وعندما يعود الحاج، تُلقى الدوخلة في البحر احتفالاً بعودتهم.
تحوّل هذا الطقس الصغير إلى مهرجان متكامل في عام 2004 (1425 هـ)، حين قررت لجنة التنمية الاجتماعية الأهلية بسنابس تحويله إلى فعالية مجتمعية واسعة تحتضن التراث المحلي، وتخلق مساحة للفرح والهوية والتطوع. ومنذ ذلك الحين، أصبح مهرجان الدوخلة مناسبة سنوية تُقام خلال أيام عيد الأضحى (من 9 إلى 15 ذو الحجة)، تجمع آلاف الزوار من مختلف مناطق المملكة.
الدوخلة: الرمز والقصيدة
الاسم الذي يحمله المهرجان ليس عبثاً، فالدوخلة رمز للطفولة في المملكة، ولها لحنٌ شعبي تُغنى له الأهازيج، وذاكرة تختزن رائحة النخيل وماء الخليج. الأطفال في المهرجان يصنعون دوخلاتهم بأنفسهم، يزيّنونها يزرعونها ويرددون الأغنية التراثية الشهيرة:
دوخلتي حجّي بي
عطاني تمر ورُبي
وكلّلني بالذهـب
ألبس وأروح أجي
هذه الأنشودة كانت تُرددها الجدات على ألسنة الأطفال، ممزوجة بالفرح والأمل بعودة الحاج بالسلامة. واليوم، يعاد إحياؤها في قلب المهرجان، في مشهد مؤثر تتفاعل معه العائلات بفرح حنينٍ نادر.
فعالية متكاملة
بات مهرجان الدوخلة تجربة ثقافية وترفيهية متكاملة تقام على مساحة تتجاوز 3000 متر مربع، على شاطئ خاص يُعدّ خصيصاًَ لهذه المناسبة. التي تنبض هذه المساحة بالأنشطة المتنوعة التي تلبي كل الأعمار والاهتمامات:
قرية تراثية بحرية:
تحاكي نمط الحياة القديمة في القطيف، بما في ذلك مجلس النوخذة، عروض القوارب التقليدية، الفنون البحرية مثل "الخبابان"، والمهن اليدوية كصناعة الحبال، وصيد السمك، والتجليد.
ركن الأطفال:
- خيام تعليمية وترفيهية وأنشطة بيئية
- زراعية وعروض مسرحية تعليم الحرف اليدوية
- تثقيف مروري وصحي.
الفعاليات الثقافية:
- أمسيات شعرية
- محاضرات
- ندوات حول الهوية الوطنية والتراث الشعبي
- عروض مسرحية وبهلوانية.
معارض فنية:
- منها معرض الخط العربي
- معرض المصاحف النادرة
- ركن الفنون التشكيلية
- المنتجات المحلية.
التقنيات الزراعية الحديثة:
في ركن مبتكر يتم فيه عرض أساليب الزراعة الرأسية والزراعة المائية، يعزز الوعي بالاستدامة.
العمل التطوعي قلب المهرجان
من أبرز ميزات مهرجان الدوخلة الوطني أنه يُدار وينفّذ بنسبة كبيرة على أيدي متطوعين من أبناء وبنات المنطقة، في مشهد يعبّر عن وعي المجتمع وقيمه. ففي إحدى نسخه، بلغ عدد المتطوعين أكثر من 1100 شاب وفتاة، شاركوا في التنظيم والضيافة والإعلام والإدارة والتوثيق والنظافة، وحتى الأمن والسلامة. هذا الحضور الكثيف للعمل التطوعي يعزز حس الانتماء والمسؤولية، ويمنح الشباب فرصة لاكتساب الخبرات وبناء العلاقات.
الأثر الاجتماعي والاقتصادي
أثبت المهرجان عبر سنواته المتتالية أنه ليس فقط فعالية ترفيهية، بل محرك اجتماعي واقتصادي أيضًا. فبجانب تعزيز الهوية الوطنية والمحلية، يساهم في:
- تنشيط السياحة المحلية: يجذب آلاف الزوار من المنطقة الشرقية وباقي مناطق المملكة.
- دعم الأسر المنتجة: عبر توفير منصات لبيع المنتجات اليدوية والمأكولات الشعبية.
- تحريك السوق المحلي: من خلال تنشيط الحرفيين، والباعة، والموردين.
- تشجيع الصناعات الثقافية: كالمسرحية والخط والموسيقى والتصوير وصناعة الفعاليات.
وقد وصلت أعداد الزوار في بعض السنوات إلى أكثر من 100,000 زائر خلال أسبوع واحد.
نحو العالمية؟
في ظل رؤية السعودية 2030، التي تدعم تعزيز الثقافة والفنون والتراث، يمكن لمهرجان الدوخلة أن يشق طريقه نحو الحضور الإقليمي والعالمي. فهو لا يقل أهمية عن أي مهرجان تراثي دولي، ويملك عناصر جذب كبيرة: أصالة الفكرة، جمال الموقع، حميمية التجربة، وتفاني المنظمين.
التحدي اليوم يكمن في التوسع المدروس، والتوثيق الاحترافي، واستقطاب شراكات إعلامية وسياحية وثقافية تساهم في نقله من فعالية محلية إلى منصة تراثية خليجية أو حتى دولية، تمثل ثقافة الساحل الشرقي للمملكة بكل تفاصيلها الفريدة.
مهرجان الدوخلة الوطني قصة حب طويلة بين الناس وتاريخهم، بين الأرض والبحر، بين التراب والماء، بين النخلة والحنين. هو تذكير بأن الأعياد يمكن أن تكون أكثر من مناسبات عابرة؛ يمكن أن تكون جسور بين الأجيال، ومساحات للتعلم والانتماء.
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتذوب الهويات في عوالم رقمية، تأتي الدوخلة كل عام لتقول: هنا، على شواطئ سنابس، ما زال للفرح طعم القمح، و للأغنية ظل نخلة، وللطفولة حكاية لا تنتهي.