افتتاح متحف البحر الأحمر في جدة
تشهد المملكة العربية السعودية نهضة ثقافية غير مسبوقة ضمن رؤية 2030، حيث تتسارع المشاريع الهادفة إلى إعادة اكتشاف تاريخ البلاد وتعزيز حضورها على خريطة الثقافة العالمية. ويأتي متحف البحر الأحمر في جدة الذي من المقرر افتتاحه في شهر ديسمبر المقبل كأحد أبرز هذه المشاريع، ليشكّل إضافة نوعية للمشهد الثقافي في المملكة ومنطقة البحر الأحمر، وواجهة معرفية تسرد تاريخ عريق ارتبط بالناس والبحر والتجارة والهجرة والحج والتفاعل الحضاري الفريد على مدى قرون طويلة.

موقع استثنائي في قلب التاريخ
يقع المتحف في قلب جدة التاريخية (البلد) داخل مبنى “باب البنت” التراثي، وهو من أشهر معالم جدة القديمة وأكثرها قيمة من الناحية التاريخية. اختيار الموقع كان قرار معماري مهم، بحيث يعكس فلسفة المشروع القائمة على إعادة إحياء ذاكرة المكان وإعادة سرد الحكايات التي نشأت حول البحر والمدينة عبر أجيال متعددة.
وبرغم تجديد المبنى وتأهيله لاستيعاب متحف حديث بمعايير عالمية، فإن التصميم حافظ على الطابع العمراني الحجازي الأصيل، بما في ذلك العناصر الزخرفية الخشبية والنوافذ والواجهات التقليدية والزخارف الجدارية التي تمنح الزائر تجربة أصيلة تأخذه في جولة إلى الماضي بروح الحاضر.
نافذة على تاريخ البحر الأحمر
يشكل المتحف مشروع ثقافي شامل يروي قصة حياة كاملة ارتبطت بالبحر الأحمر، ذلك البحر الذي مثّل عبر التاريخ ممر استراتيجي للتواصل التجاري والثقافي بين آسيا وأفريقيا والعالم العربي.
اليوم، يقدّم المتحف رؤية بصرية ومعرفية مبتكرة لهذا التاريخ عبر:
- معارض تعتمد على السرد المتسلسل للأحداث.
- تجارب تفاعلية وتقنيات عرض حديثة.
- وثائق ومخطوطات تاريخية نادرة.
- صور أرشيفية عالية الأهمية.
- قطع أثرية بحرية وتجارية تمتد لقرون.
- مقتنيات تعكس حياة المجتمعات الساحلية والبحارة والحجاج والمسافرين.
بهذا، يقدّم المتحف سرد إنساني عميق يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والبحر الأحمر.
أكثر من 1000 قطعة موزعة على عشرات القاعات
يضم متحف البحر الأحمر أكثر من ألف قطعة تاريخية وفنية تتوزع على عشرات القاعات المتخصصة، التي تغطي محاور متعددة تشمل:
- تاريخ التجارة عبر البحر الأحمر
- خطوط الملاحة البحرية القديمة
- الحياة الاجتماعية على السواحل
- الهجرة عبر البحر الأحمر
- الحج ووصول الحجاج إلى ميناء جدة
- الثقافة والعمارة والفنون المرتبطة بالبحر
- النظم البيئية البحرية
وتعتمد فلسفة العرض داخل القاعات على إبراز المعلومة الموثقة والعرض الفني الغامر، بحيث يعيش الزائر تجربة أقرب إلى “رحلة عبر الزمن” لا تشبه الزيارة التقليدية للمتاحف.
رحلة الحج عبر البحر الأحمر
يمتلك المتحف أحد أهم محاوره المرتبطة بتاريخ الحج عبر البحر، وهو فصل مدهش من التاريخ الإنساني والثقافي للمنطقة. فعلى مدى قرون طويلة، شكّل ميناء جدة البوابة البحرية الرئيسية للحجاج القادمين من أفريقيا ومصر والمغرب واليمن والمحيط الهندي وجنوب آسيا.
ولذلك يخصص المتحف قاعات تعرض:
- سفن الحجاج القديمة.
- وثائق السفر البحرية.
- سجلات الموانئ.
- صور تاريخية للحجاج أثناء وصولهم إلى جدة.
- الأدوات التي كانت تستخدم في السفن والموانئ.
كل ذلك يمنح الزائر تصور حي عن كيفية أداء الملايين لركن من أعظم شعائر الإسلام من خلال تنقلهم عبر البحر.
التصميم المعماري: حيث يلتقي الماضي بالحاضر
نجح المشروع في المزج بين الهوية العمرانية الحجازية التاريخية و تصميم المتاحف العصري، وقد حافظ على المواد التقليدية من الخشب والحجر والجبس المحلّي، مع إضافة تقنيات حديثة للإضاءة والعرض المرئي والصوتي.
بهذا الأسلوب، يشعر الزائر أن المكان نفسه “قطعة من المتحف”، لا مجرد حاضن له. فالجدران، والسلالم الخشبية، والنوافذ التقليدية المطلة على الأزقة القديمة، كلها جزء حي من الحكاية.
برامج ثقافية تمتد لما بعد الزيارة
تشمل:
- ندوات ولقاءات ثقافية وتاريخية
- ورش عمل فنية وتنموية
- فعاليات موسيقية مرافقة مستوحاة من تراث البحر الأحمر
- برامج خاصة بالأطفال والعائلة
- مسارات تعليمية للطلاب والباحثين
- معارض فنية مؤقتة لفنانين سعوديين ودوليين
بهذا يتحول المتحف إلى مؤسسة تعليمية وفنية مستدامة، لا مجرد وجهة تزورها مرة واحدة.
إعادة إحياء الهوية البحرية السعودية
لطالما لعب البحر الأحمر دور محوري في تشكيل هوية مدن الساحل العربي، لكنه لم يُقدَّم عبر مؤسسة ثقافية متخصصة بالشكل اللائق من قبل. وهنا يأتي المتحف ليؤدي دوره في:
- تثبيت الذاكرة العامة حول التراث البحري.
- توثيق قصص البحارة والتجار والرحالة.
- إبراز التنوع الاجتماعي والثقافي على السواحل.
- الحفاظ على الوثائق المهددة بالاندثار.
- ترسيخ أهمية البحر الأحمر في تشكيل الاقتصاد والثقافة.
مسار جديد في السياحة الثقافية
تشهد جدة تحول مهم في موقعها السياحي، أصبحت مركز ثقافي عالمي بفضل مشاريع:
- المتاحف الحديثة
- القصور التاريخية المؤهلة
- الفعاليات الفنية الدولية
- أسواق التراث
- مشاريع تطوير جدة التاريخية
ويشكّل “متحف البحر الأحمر” أحد أعمدة هذا التحول، حيث يضيف للمدينة وجهة ثقافية من مستوى عالمي تستقطب السياح والباحثين والطلاب والمهتمين بتاريخ المنطقة والعالم.
دعم رؤية 2030
ينسجم المشروع بشكل كامل مع أهداف رؤية السعودية 2030، وعلى رأسها:
- تعزيز مساهمة الثقافة في جودة الحياة.
- دعم الصناعات الإبداعية.
- تطوير البنية التحتية الثقافية.
- تقديم محتوى ثقافي يعكس الهوية السعودية للعالم.
- الدفع باتجاه متاحف حديثة قادرة على المنافسة عالمياً.
تجربة لا تُنسى للزائر
عند التجول في أروقة المتحف، يشعر الزائر بأنه أمام “رحلة إنسانية ساحرة”، تبدأ من، أصوات الموج في قاعات العرض، مروراً بصور السفن القديمة،وصولاًَ إلى وثائق التجار والرحالة، ثم مشاهد الحجاج على السفن، وقصص الناس الذين قضوا أوقاتهم في البحر وتحت نسيمه وأمواجه.
يمثل متحف البحر الأحمر في جدة علامة ثقافية فارقة، فهو مؤسسة نابضة بالحياة تعيد سرد قصة هوية البحر والإنسان والعلاقات الحضارية التي صنعتها أمواجه على مدى مئات السنين. ومع افتتاحه، تدخل جدة مرحلة جديدة تستعيد فيها ذاكرتها البحرية وتتقدم بثقة إلى المستقبل، حاملة إرث تاريخي ثري تقدمه للعالم بطرق حديثة تليق بمكانتها ورؤيتها الثقافية.