المركبات ذاتية القيادة في قطاع النقل السعودي

 

 

في مشهد متسارع يشهد تحولات تقنية مذهلة، تبرز المملكة العربية السعودية كلاعب رئيسي في مستقبل النقل العالمي، من خلال إدماج المركبات ذاتية القيادة في منظومة المواصلات العامة والخاصة. لم يعد الحديث عن السيارات الذكية حكر على وادي السيليكون، بل أصبحت شوارع الرياض وجدة والعلا مختبر حي لهذه التكنولوجيا، في إطار رؤية طموحة تسعى لجعل المملكة من أوائل الدول في هذا المجال على مستوى العالم.

 

 

تاكسي ذاتي القيادة في الرياض

انطلقت أول تجربة رسمية لمركبات الأجرة ذاتية القيادة في يوليو 2025، في العاصمة الرياض، ضمن مشروع تجريبي رائد تشرف عليه هيئة النقل العامة. شملت التجربة 13 نقطة توقف موزعة على مواقع استراتيجية مثل مطار الملك خالد الدولي (الصالات 2 و5) وجامعة الأميرة نورة ومشروع روشن بيزنس فرونت ومقر الهيئة نفسها.

تعمل المركبات الذاتية عبر تقنيات متقدمة للقيادة الآلية، وتضم أنظمة استشعار ذكية وكاميرات ثلاثية الأبعاد. يرافق كل مركبة "مسؤول أمان" خلال المرحلة التجريبية وذلك حرصاً على الأمان. هذا المشروع يأتي ضمن سلسلة مبادرات تهدف إلى خفض الاعتماد على السائقين، وتقليل الانبعاثات الكربونية، وتوفير تجربة تنقل أكثر مرونة للمواطنين والزوار على حد سواء.

 

الشراكات الدولية: We Ride و Uber في صدارة المشهد

اعتمدت التجربة السعودية على شراكات استراتيجية مع كبرى الشركات العالمية. من أبرزها شركة We Ride الصينية، التي أعلنت عن بدء تشغيل خدمات روبوتاكسي وروبوباص في السعودية، بالتعاون مع تطبيق Uber الذي سيتولى الإطلاق التجاري الكامل بحلول نهاية عام 2025.

وقد شملت تجارب We Ride تشغيل حافلات ذاتية القيادة (Robobus) في مدينة الرياض، بالإضافة إلى إدخال روبوتات تنظيف ذاتية إلى مستشفيات رئيسية. هذه الخطوات تعكس توجه عملي لاختبار الحلول الذكية في بيئات واقعية، تمهيداً لتوسيع النطاق وتوفيرها للجمهور بشكل دائم.

 

البنية التحتية الذكية: تعديلات تنظيمية واستعداد تقني

لفتح الطريق أمام هذا النوع من النقل، قامت السعودية بإجراء تعديلات جوهرية على منظومتها التنظيمية والتشريعية. في يوليو 2025، أعلنت وزارة النقل والخدمات اللوجستية عن تحديثات على كود الطرق السعودي ليتماشى مع متطلبات المركبات الذاتية، شملت:

  • إدخال معايير جديدة لخطوط الطريق وعلاماته لتكون مقروءة بشكل آلي.
  • تجهيز الطرق ببنى تحتية داعمة لتقنيات الاتصال اللحظي.
  • تطوير نظام ذكي لمواقف السيارات.

تشجيع استخدام نظم القيادة الآلية في الشاحنات والباصات.

تلك التعديلات هي خطوات إستراتيجية تهدف لتأسيس بيئة قانونية وتشغيلية تضمن السلامة والكفاءة وتفتح المجال أمام الابتكار.

حاضنة الابتكار: Future Mobility Sandbox

أسست منصة اختبار مستقبلية داخل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) تُعرف باسم Future Mobility Sandbox. هذه الحاضنة الفريدة تمثل مساحة مفتوحة لاختبار المركبات الذاتية، والطائرات الكهربائية العمودية (eVTOL)، والطائرات المسيرة، والحلول اللوجستية الذكية.

تمتد المنصة على مساحة تزيد عن 1.5 كيلومتر مربع، وتوفر بيئة تحاكي ظروف النقل الفعلية داخل مدن المستقبل. ويُتوقع أن تلعب هذه المنصة دور محوري في تطوير اللوائح والتقنيات قبل إدخالها إلى المدن الكبرى، مما يعزز جاهزية السوق السعودي لاعتماد هذه الحلول.

 

أهداف طموحة: 2030 والتحول الجذري في التنقل

ضمن الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، تضع المملكة أهداف واضحة لاستخدام المركبات ذاتية القيادة بحلول عام 2030، تشمل:

  • أن تكون 15٪ من وسائط النقل العام ذاتية القيادة.
  • أن تصبح 25٪ من مركبات الشحن مزوّدة بتقنيات القيادة الذاتية.
  • تقليص الحوادث المرورية بنسبة كبيرة عبر الحد من الخطأ البشري.
  • تحقيق التكامل بين النقل الذكي والمستدام والذكاء الاصطناعي.

هذه الأهداف تنسجم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، التي تسعى لتحويل المملكة إلى نموذج عالمي في جودة الحياة واستدامة المدن والتفوق التكنولوجي.

تصنيع محلي: Ceer Motors وHyundai

إدراكاً لأهمية توطين التقنيات، تعمل السعودية على إنشاء قاعدة صناعية للمركبات الذكية. تم إطلاق شركة Ceer Motors كأول شركة سعودية متخصصة في تصنيع السيارات الكهربائية، بالشراكة بين صندوق الاستثمارات العامة (PIF) وشركة فوكسكون.

كما أعلنت المملكة عن مشروع ضخم مع شركة Hyundai لبناء مصنع لتجميع وتصنيع السيارات الكهربائية والذاتية القيادة، سيبدأ الإنتاج فيه بحلول 2026. يهدف المشروع إلى جعل السعودية مركز إقليمي لتصنيع المركبات المستقبلية، وتعزيز سلاسل التوريد المحلية.

 

المترو والباص الذكي: خطوات متقدمة نحو النقل بدون سائق

إلى جانب المركبات الخاصة، تسير السعودية بخطى ثابتة في مشاريع النقل العام الذكي. فقد افتتح مترو الرياض في أواخر 2024، ويُعد أحد أطول شبكات المترو بدون سائق في العالم، بطول 176 كيلو متر، ويغطي 6 خطوط و85 محطة. كما تضم الرياض شبكة "Riyadh Bus" التي تتكامل مع مشروع المترو، وقد تصبح منصة مستقبلية لدمج الحافلات ذاتية القيادة.

التحديات والفرص

رغم كل هذا التقدم، لا تزال هناك تحديات تقنية وتنظيمية يجب تجاوزها، منها:

  • توفير بنية تحتية رقمية قوية في كل المدن.
  • كسب ثقة المجتمع في تقنيات القيادة الذاتية.
  • تطوير كوادر وطنية قادرة على تصميم وصيانة هذه الأنظمة.
  • مواءمة الإطار التشريعي مع التطورات السريعة.

لكن في المقابل، فإن الفرص التي تتيحها هذه التحولات كبيرة، وتشمل تقليل الزحام، تحسين السلامة المرورية، خفض التكاليف التشغيلية، ودفع عجلة الابتكار في قطاعات متعددة من اللوجستيات إلى السياحة.

 

تمضي المملكة العربية السعودية بخطى واثقة نحو تبنّي الجيل القادم من وسائل النقل، في مشهد يُعيد تعريف التنقل في المنطقة. ومن خلال التجارب الجريئة والبنية التحتية الذكية والشراكات العالمية، ترسّخ السعودية مكانتها كمختبر مفتوح لتقنيات المستقبل، وتحجز لنفسها مقعد متقدم في قطار النقل الذكي العالمي.

المركبات ذاتية القيادة ليست حلم بعيد المنال... إنها واقع جديد ينطلق من قلب الصحراء.