أجمل قرى السعودية... والقصص التي تحملها بين حجارتها

 

بعيداً عن أبراج الرياض اللامعة ومساجد مكة المكرّمة المقدّسة، تمتد في قلب السعودية أرض عريقة الجذور ضاربة في عمق التاريخ. وبينما تمضي البلاد بخطى مذهلة نحو المستقبل، تختبئ بين جبالها قرىٌ تحكي عن أقدم وأصفى شكل للحياة السعودية، صاغته الطبيعة بالحجر والطين واللبن المشمس، وبقي شاهد على قرون من المعرفة المحلية والهوية الإقليمية. في السطور التالية، نقدم لكم خمسة من أكثر قرى المملكة سحر، من منازل رُجال ألمع الحجرية المكدّسة في جبال الجنوب، إلى القصور الطينية الحصينة في الدرعية قرب العاصمة.

 

 

رُجال ألمع – قرية الجبل من الحجر واللون

حين يتخيّل الناس السعودية، كثيراً ما تخطر في بالهم الصحارى المترامية والمعالم الإسلامية المهيبة. لكن عند سفوح جبال السروات في الجنوب الغربي، تُقدّم رُجال ألمع وجه مختلف تماماً. فالأبنية مصنوعة من حجر الأردواز الداكن ومطلة على وادي أخضر قرب أبها، تبدو القرية أقرب إلى قرى جبال الألب منها إلى مشهد الصحراء، ضبابية وساحرة في قلب منطقة عسير الخضراء.

تعود جذور القرية إلى أكثر من تسعمئة عام، وكانت يوماً محطة رئيسية للتجار والحجاج بين البحر الأحمر والمرتفعات، فتحولت إلى مستوطنة محصّنة ذات بيوت شاهقة تصل إلى ثمانية طوابق. تُزيَّن نوافذها وأبوابها بنقوش هندسية ملونة على طراز فني محلي يُعرف بالقطّ، كانت ترسمه نساء عسير بأيديهن، فغدت جدران القرية لوحات حية تنبض بالهوية والأنوثة. أما داخل البيوت، فتنتظم الغرف حول مجلس مركزي بجدران سميكة تحفظ حرارة الجبال وبرودتها.

وفي عام 1985، افتُتح في القرية أحد أوائل المتاحف المحلية في المملكة، داخل حصن قديم يضم مخطوطات وأدوات وتحف قبلية. ومؤخراً، رُشّحت رُجال ألمع للإدراج ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، لتصبح نموذج للسياحة المسؤولة في الجنوب. ورغم مرور القرون، ما زال بعض أهلها يعيشون فيها، لتبقى نافذة حيّة على العمارة والثقافة العسيرية الأصيلة.

 

ذِي عين – “قرية الرخام” في الجبال

بين منحدرات منطقة الباحة، تستلقي ذي عين كجوهرة من حجر فوق نتوء صخري يطل على وادي تغذّيه الينابيع، وتحيط به النخيل وقمم الحجاز الوعرة. عند شروق الشمس، يغمرها وهج فضي يجعلها تستحق لقبها الشهير: “قرية الرخام”.

تأسست ذي عين قبل أكثر من أربعمئة عام، وسُمّيت على نبع “العين” الذي لا يزال يتدفّق حتى اليوم، ويسقي المدرجات الزراعية وبساتين الفاكهة أسفلها. شُيّدت منازلها من الحجر المحلي، بواجهات هندسية نظيفة وطبقات ترتفع من طابقين إلى أربعة، تفصلها أزقة ضيقة تؤدي إلى أفنية مظللة وشرفات تطل على الوادي، وكانت تُستخدم لمراقبة القوافل العابرة.

ورغم أن القرية خلت من سكانها منذ عقود، لكنها خضعت لعمليات ترميم دقيقة وأصبحت اليوم مفتوحة أمام الزوار، محتفظة بتخطيطها الأصلي وقنواتها الزراعية الجافة التي لا تزال تحكي قصة المكان.

 

الدرعية – “مدينة الأرض” التاريخية

على أطراف الرياض، تقع الدرعية، المدينة التي انطلقت منها شرارة الدولة السعودية الأولى، والمقرّ التاريخي لأسرة آل سعود. تأسست في القرن الخامس عشر، وكانت ذات يوم مركز سياسي محوري، يضم حي الطريف الحصين بعمائره الطينية ومساجده و قصر سلوى الذي احتضن مجلس الحكم الملكي.

اليوم، الدرعية موقع مدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، وتشهد نهضة جديدة بقيادة شركة الدرعية ضمن مشروع طموح لإحياء التراث. ففي الوقت الذي تُرمَّم فيه البلدة الأصلية بعناية، يجري تطوير محيطها ليصبح مركز نابض بالحياة الثقافية والسكنية، مستلهماً روح المكان بواجهاته الطينية ونقوشه النجدية وتصاميمه الداخلية السعودية المعاصرة.

وفي فبراير 2025، استضافت الدرعية أول مزاد لدار سوثبيز في المملكة، في حدث يؤكد مكانتها المتصاعدة كوجهة للفن والتراث والثقافة الرفيعة.

 

أشيقر – قلعة الصحراء في قلب نجد

على الطريق القديم المؤدي إلى مكة المكرّمة، تقف أشيقر كواحدة من أقدم القرى الطينية في قلب إقليم نجد. محاطة بالصحراء وبساتين النخيل، كانت القرية ملاذ للتجار والمسافرين والعائلات القبلية قبل نشوء مدينة الرياض بزمن طويل. ويعود اسمها، الذي يعني “الأشقر الصغير”، إلى الجبل ذي اللون الأحمر الفاتح القريب منها، والذي كان علامة يستدل بها العابرون في هضبة نجد الواسعة.

على خلاف قرى الجنوب الحجرية مثل ذي عين ورُجال ألمع، وُلدت أشيقر من رحم الرمل؛ فمنازلها مبنية من اللبن المجفف تحت الشمس، ومغطاة بطبقة ناعمة من الطين، تستند على دعامات خشبية من الأثل. وفي القرن السابع عشر، ازدهرت القرية كمركز للعلم والدين، واحتضنت عدد من القبائل والعلماء البارزين، من بينهم بنو تميم وأسرة آل الشيخ.

ورغم أن معظم أهلها الأصليين انتقلوا إلى المدن القريبة، فقد خضعت أشيقر لعملية ترميم شاملة حافظت على أكثر من 400 مبنى، إلى جانب إنشاء مركز تراثي مخصص للزوار. اليوم، يمكن للسيّاح التجوّل بين أزقّتها المتشابكة ومساجدها ومجالسها وأبراج المراقبة وأسواقها الشعبية، لتقدّم أشيقر تجربة نادرة تُظهر فن العمارة النجدية التقليدية محفوظ في أبهى صوره وسط الصحراء.

 

الحبلة – قرية الجرف العالية وسرّ “رجال الزهور”

تُعد الحبلة بلا شك واحدة من أكثر قرى السعودية فرادة وغرابة في موقعها وطبيعتها. شُيّدت على حافة جرف شاهق في جبال السروات، على ارتفاع يزيد عن ألفي متر فوق سطح البحر. ولزمن طويل، لم يكن الوصول إليها ممكن إلا عبر سلالم الحبال، إذ يُشتق اسمها من كلمة “حبل” بالعربية.

كانت القرية موطن لمجتمع صغير من قبيلة قحطان، يُعرفون باسم “رجال الزهور”، نسبةً إلى تقليدهم العريق في ارتداء أكاليل من الأعشاب والزهور الطازجة على رؤوسهم. بيوتهم الحجرية متواضعة وغير منتظمة، تمتد على شُرفٍ ضيقة مزوّدة بمدرّجات صغيرة لتجفيف المحاصيل وتخزين المياه. أما الزراعة فكانت تتم على منحدرات مجاورة تُروى بمياه الأمطار والينابيع الموسمية.

وتشير الروايات الشفوية إلى أن اختيارهم هذا الموقع الصعب كان للدفاع عن النفس خلال الحقبة العثمانية في القرن التاسع عشر، إذ وفّر لهم الجبل عزلةً تحميهم من المطاردة. وفي تسعينيات القرن العشرين، أُعيد فتحه أمام الزوار عبر التلفريك، ليمنح الناس فرصة لاكتشاف هذا العالم المعزول الذي صمد في وجه الزمن.

ورغم أن السكان الأصليين انتقلوا منذ زمن، فإن أحفادهم ما زالوا يعودون في الصيف للمهرجانات واللقاءات الشعبية، محتفظين بعادات أزيائهم وموسيقاهم، التي ما زالت تُشكّل جزء حيّ من الهوية الثقافية في منطقة عسير.